قصة عيسى ابن مريم عليه السلام
وقد ذكر محمد بن إسحاق وغيره أن أم مريم كانت لا تحبل، فرأت يوماً طائراً يزق فرخاً له، فاشتهت الولد، فنذرت لله إن حملت لتجعلن ولدها محرراً، أي: حبيساً في خدمة بيت المقدس. قالوا: فحاضت من فورها، فلما طهرت واقعها بعلها: فحملت بمريم عليها السلام (فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت) وقرئ بضم التاء (وليس الذكر كالأنثى) أي: في خدمة بيت المقدس، وكانوا في ذلك الزمان ينذرون لبيت المقدس خداماً من أولادهم. وقولها: (وإني سميتها مريم) استدل به على تسمية المولود يوم يولد. وكما ثبت في الصحيحين عن أنس في ذهابه بأخيه إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحنك أخاه وسماه عبد الله.
وقولها: (وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) قد استجيب لها في هذا كما تقبل منها نذرها،
فقال الإمام احمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مولود إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مسه الشيطان إلا مريم وابنها"
وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل مولود من بني آدم يمسه الشيطان بإصبعه إلا مريم بنت عمران وابنها عيسى"
وقوله:
{ فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً وكفلها زكريا }
ذكر كثير من المفسرين أن أمها حين وضعتها لفتها في خروقها. ثم خرجت بها إلي المسجد فسلمتها إلي العباد الذين هم مقيمون به، وكانت ابنة إمامهم وصاحب صلاتهم، فتنازعوا فيها، والظاهر أنها إنما سلمتها إليهم بعد رضاعها وكفالة مثلها في صغرها. ثم لما دفعتها إليهم تنازعوا في أيهم يكفلها، وكان زكريا نبيهم في ذلك الزمان، وقد أراد أن يستبد بها دونهم من أجل زوجته أختها أو خالتها على القولين، فشاحوه في ذلك، وطلبوا أن يقترع معهم، فساعدته المقادير فخرجت قرعته غالبة لهم، وذلك أن الخالة بمنزلة الأم.
وقالوا: وذلك أن كلاً منهم ألقى قلمه معروفاً به، ثم حملوها ووضعوها في موضع، وأمروا غلاماً لم يبلغ الحنث فأخرج واحداً منها، وظهر قلم زكريا عليه السلام، فطلبوا أن يقترعوا مرة ثانية، وأن يكون ذلك بأن يلقوا أقلامهم في النهر فأيهم جرى قلمه على خلاف جرية الماء فهو الغالب ففعلوا، فكان قلم زكريا هو الذي جرى على خلاف جرية الماء، وسارت أقلامهم مع الماء، ثم طلبوا منه أن يتقرعوا ثالثة فأيهم جرى قلمه مع الماء ويكون بقية الأقلام قد انعكس سيرها صعداً فهو الغالب ففعلوا، فكان زكريا هو الغالب لهم، فكفلها إذ كان أحق بها شرعاً وقدراً لوجوه عديدة.
قال الله تعالى:
{ كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً، قال يا مريم أني لك هذا، قالت هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } (سورة آل عمران:37)
واتخذ زكريا لها محراباً، وهو المكان الشريف من المسجد لا يدخله أحد عليها سواه، وأنها لما بلغت اجتهدت في العبادة، فلم يكن في ذلك الزمان نظيرها في فنون العبادات، وظهر عليها من الأحوال ما غبطها به زكريا عليه السلام، وأنها خاطبتها الملائكة بالبشارة لها باصطفاء الله لها، وبأنه سيهب لها ولداً زكيا يكون نبياً كريماً طاهراً مكرماً مؤيداً بالمعجزات، فتعجبت من وجود ولد من غير والدن لأنها لا زوج لها، ولا هي ممن تتزوج، فأخبرتها الملائكة بأن الله قادر على ما يشاء، إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون، فاستكانت لذلك وأنابت وسلمت الأمر لله، وعلمت أن هذا فيه محنة عظيمة لها، فإن الناس يتكلمون فيها بسببه، لأنهم لا يعلمون حقيقة الأمر، وإنما ينظرون إلي ظاهر الحال من غير تدبر ولا تعقل.
وكانت إنما تخرج من المسجد في زمن حيضها أو لحاجة ضرورية لابد منها أن استقاء ماء أو تحصيل غذاء، فبينما هي يوماً قد خرجت لبعض شئونها وانفردت وحدها في شرقي المسجد الأقصى، إذ بعث الله إليها الروح الأمين جبريل عليه السلام { فتمثل لها بشراً سوياً } فلما رأته { قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا }. { قال إنما أنا رسول ربك } أي: خاطبها الملك قال: إنما أنا رسول ربك أي: لست ببشر، ولكنني ملك بعثني الله إليك؛ { لأهب لك غلاماً زكياً } أي: ولداً زكياً { قالت أني يكون لي غلام } أي: كيف يكون لي غلام أو يوجد لي ولد { ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً } أي: ولست ذات زوج وما أنا ممن يفعل الفاحشة، { قال كذلك قال ربك هو على هين } أي: فأجابها الملك عن تعجبها من وجود ولد منها والحالة هذه قائلاً هذا سهل عليه ويسير لديه، فإنه على ما يشاء قدير.
وقوله: { ولنجعله آية للناس } أي: ولنجعل خلقه والحالة هذه دليلاً على كمال قدرتنا على أنواع الخلق، فإنه تعالى خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، وخلق بقية الخلق من ذكر وأنثى. وقوله { ورحمة منا }، أي: نرحم به العباد بأن يدعوهم إلي الله في صغره وكبره في طفولته وكهولته، بأن يفردوا الله بالعبادة وحده لا شريك له، وينزهوه عن اتخاذ الصاحبة والأولاد والشركاء والنظراء والأضداد والأنداد. وقوله: { وكان أمراً مقضياً } يحتمل أن يكون هذا من تمام كلام جبريل معها يعني: أن هذا أمر قضاه الله وحتمه وقدره وقرره، وهذا معنى قول محمد بن إسحاق، واختاره ابن جرير ولم يحك سواه، والله أعلم.
قال محمد بن إسحاق: شاع واشتهر في بني إسرائيل أنها حامل، فما دخل على أهل بيت ما دخل على آل بيت زكريا. قال: واتهمها بعض الزنادقة بيوسف الذي كان يتعبد معها في المسجد، وتوارت عنهم مريم، واعتزلتهم، وانتبذت مكاناً قصياً، وقوله: (فأجاءها المخاض إلي جذع النخلة) أي: فألجأها واضطر الطلق إلي جذع النخلة، (قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً) فيه دليل على جواز تمني الموت عند الفتن، وذلك أنها علمت أن الناس يتهمونها ولا يصدقونها، بل يكذبونها حين تأتيهم بغلام على يدها، مع أنها قد كانت عندهم من العابدات الناكسات المجاورات في المسجد المنقطعات إليه المعتكفات فيه، ومن بيت النبوة والديانة، فحملت بسبب ذلك من الهم ما تمنت أن لو كانت ماتت قبل هذا الحال، أو كانت (نسياً منسياً) أي: لم تخلق بالكلية.
وقوله: { فنادها من تحتها }، وقوله: { ألا تخزني قد جعل ربك تحتك سرياً } { وهزي إليك بجزع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً } فذكر الطعام والشراب، ولهذا قال:{ فكلي واشربي وقري عيناً }
قال عمرو بن ميمون: ليس شيء أجود للنفساء من التمر والرطب، ثم تلا هذه الآية.
وقال ابن أبي حاتم: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم وليس من الشجر شيء يلقح غيرها"
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أطعموا نساءكم الولد الرطب، فإن لم يكن رطب فتمر، وليس من الشجر شجرة أكرم على الله من شجرة نزلت تحتها مريم بنت عمران"
{ فإما ترين من البشر أحداً فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً }
وهذا من تمام كلام الذي نادها من تحتها قال:
{ كلي واشربي وقري عيناً فإما ترين من البشر أحداً }
أي: فإن رأيت أحداً من الناس (فقولي) له أي: بلسان الحال والإشارة (إني نذرت للرحمن صوماً) أي: صمتاً، وكان من صومهم في شريعتهم ترك الكلام والطعام، ويدل على ذلك قوله: (فلن أكلم اليوم إنسياً) فأما في شريعتنا فيكره للصائم صمت يوم إلي الليل.
وقوله تعالى:
{ فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فريا * يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوءٍ وما كانت أمك بغيا } (سورة مريم:2728)
ذكر كثير من السف ممن ينقل عن أهل الكتاب أنهم لما افتقدوها من بين أظهرهم ذهبوا في طلبها، فمروا على محلتها والأنوار حولها، فلما واجهوها وجدوا معها ولد فقالوا له: (لقد جئت شيئاً فريا) أي: أمراً عظيماً منكراً، وفي هذا الذي قالوه نظر، مع أنه كلام ينقض أوله آخره، وذلك لأن ظاهر سياق القرآن العظيم يدل على أنها حملته بنفسها وأتت به قومها وهي تحمله، قال ابن عباس: وذلك بعد ما تعالت من نفاسها بعد أربعين يوماً. والمقصود أنهم لما رأوها تحمل معها ولدها (قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فريا) والفرية: هي الفعلة المنكرة العظيمة من الفعال والمقال. ثم قالوا لها: (يا أخت هارون) قيل: شبهوها بعابد من عباد زمانهم كانت تسامية في العبادة، وكان اسمه هارون، قاله سعيد بن جبير، وقيل: أرادوا بهارون أخا موسى شبهوها به في العبادة، وأخطأ محمد كعب القرظي في زعمه أنها أخت موسى وهارون نسباً، فإن بينهما من الدهور الطويلة ما لا يخفي على أدنى من عنده من العلم ما يرده عن هذا القول الفظيع، وكأنه غره أن في التوراة أن مريم أخت موسى وهارون ضربت بالدف يوم نجى الله موسى وقومه وأغرق فرعون وملأه، فاعتقد أن هذه هي هذه.
وهذا في غاية البطلان والمخالفة للحديث الصحيح مع نص القرآن، كما قررناه في التفسير مطولاً، ولله الحمد والمنة. وقد ورد في الحديث الصحيح الدال على
وقد ذكر محمد بن إسحاق وغيره أن أم مريم كانت لا تحبل، فرأت يوماً طائراً يزق فرخاً له، فاشتهت الولد، فنذرت لله إن حملت لتجعلن ولدها محرراً، أي: حبيساً في خدمة بيت المقدس. قالوا: فحاضت من فورها، فلما طهرت واقعها بعلها: فحملت بمريم عليها السلام (فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت) وقرئ بضم التاء (وليس الذكر كالأنثى) أي: في خدمة بيت المقدس، وكانوا في ذلك الزمان ينذرون لبيت المقدس خداماً من أولادهم. وقولها: (وإني سميتها مريم) استدل به على تسمية المولود يوم يولد. وكما ثبت في الصحيحين عن أنس في ذهابه بأخيه إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحنك أخاه وسماه عبد الله.
وقولها: (وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) قد استجيب لها في هذا كما تقبل منها نذرها،
فقال الإمام احمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مولود إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مسه الشيطان إلا مريم وابنها"
وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل مولود من بني آدم يمسه الشيطان بإصبعه إلا مريم بنت عمران وابنها عيسى"
وقوله:
{ فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً وكفلها زكريا }
ذكر كثير من المفسرين أن أمها حين وضعتها لفتها في خروقها. ثم خرجت بها إلي المسجد فسلمتها إلي العباد الذين هم مقيمون به، وكانت ابنة إمامهم وصاحب صلاتهم، فتنازعوا فيها، والظاهر أنها إنما سلمتها إليهم بعد رضاعها وكفالة مثلها في صغرها. ثم لما دفعتها إليهم تنازعوا في أيهم يكفلها، وكان زكريا نبيهم في ذلك الزمان، وقد أراد أن يستبد بها دونهم من أجل زوجته أختها أو خالتها على القولين، فشاحوه في ذلك، وطلبوا أن يقترع معهم، فساعدته المقادير فخرجت قرعته غالبة لهم، وذلك أن الخالة بمنزلة الأم.
وقالوا: وذلك أن كلاً منهم ألقى قلمه معروفاً به، ثم حملوها ووضعوها في موضع، وأمروا غلاماً لم يبلغ الحنث فأخرج واحداً منها، وظهر قلم زكريا عليه السلام، فطلبوا أن يقترعوا مرة ثانية، وأن يكون ذلك بأن يلقوا أقلامهم في النهر فأيهم جرى قلمه على خلاف جرية الماء فهو الغالب ففعلوا، فكان قلم زكريا هو الذي جرى على خلاف جرية الماء، وسارت أقلامهم مع الماء، ثم طلبوا منه أن يتقرعوا ثالثة فأيهم جرى قلمه مع الماء ويكون بقية الأقلام قد انعكس سيرها صعداً فهو الغالب ففعلوا، فكان زكريا هو الغالب لهم، فكفلها إذ كان أحق بها شرعاً وقدراً لوجوه عديدة.
قال الله تعالى:
{ كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً، قال يا مريم أني لك هذا، قالت هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } (سورة آل عمران:37)
واتخذ زكريا لها محراباً، وهو المكان الشريف من المسجد لا يدخله أحد عليها سواه، وأنها لما بلغت اجتهدت في العبادة، فلم يكن في ذلك الزمان نظيرها في فنون العبادات، وظهر عليها من الأحوال ما غبطها به زكريا عليه السلام، وأنها خاطبتها الملائكة بالبشارة لها باصطفاء الله لها، وبأنه سيهب لها ولداً زكيا يكون نبياً كريماً طاهراً مكرماً مؤيداً بالمعجزات، فتعجبت من وجود ولد من غير والدن لأنها لا زوج لها، ولا هي ممن تتزوج، فأخبرتها الملائكة بأن الله قادر على ما يشاء، إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون، فاستكانت لذلك وأنابت وسلمت الأمر لله، وعلمت أن هذا فيه محنة عظيمة لها، فإن الناس يتكلمون فيها بسببه، لأنهم لا يعلمون حقيقة الأمر، وإنما ينظرون إلي ظاهر الحال من غير تدبر ولا تعقل.
وكانت إنما تخرج من المسجد في زمن حيضها أو لحاجة ضرورية لابد منها أن استقاء ماء أو تحصيل غذاء، فبينما هي يوماً قد خرجت لبعض شئونها وانفردت وحدها في شرقي المسجد الأقصى، إذ بعث الله إليها الروح الأمين جبريل عليه السلام { فتمثل لها بشراً سوياً } فلما رأته { قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا }. { قال إنما أنا رسول ربك } أي: خاطبها الملك قال: إنما أنا رسول ربك أي: لست ببشر، ولكنني ملك بعثني الله إليك؛ { لأهب لك غلاماً زكياً } أي: ولداً زكياً { قالت أني يكون لي غلام } أي: كيف يكون لي غلام أو يوجد لي ولد { ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً } أي: ولست ذات زوج وما أنا ممن يفعل الفاحشة، { قال كذلك قال ربك هو على هين } أي: فأجابها الملك عن تعجبها من وجود ولد منها والحالة هذه قائلاً هذا سهل عليه ويسير لديه، فإنه على ما يشاء قدير.
وقوله: { ولنجعله آية للناس } أي: ولنجعل خلقه والحالة هذه دليلاً على كمال قدرتنا على أنواع الخلق، فإنه تعالى خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، وخلق بقية الخلق من ذكر وأنثى. وقوله { ورحمة منا }، أي: نرحم به العباد بأن يدعوهم إلي الله في صغره وكبره في طفولته وكهولته، بأن يفردوا الله بالعبادة وحده لا شريك له، وينزهوه عن اتخاذ الصاحبة والأولاد والشركاء والنظراء والأضداد والأنداد. وقوله: { وكان أمراً مقضياً } يحتمل أن يكون هذا من تمام كلام جبريل معها يعني: أن هذا أمر قضاه الله وحتمه وقدره وقرره، وهذا معنى قول محمد بن إسحاق، واختاره ابن جرير ولم يحك سواه، والله أعلم.
قال محمد بن إسحاق: شاع واشتهر في بني إسرائيل أنها حامل، فما دخل على أهل بيت ما دخل على آل بيت زكريا. قال: واتهمها بعض الزنادقة بيوسف الذي كان يتعبد معها في المسجد، وتوارت عنهم مريم، واعتزلتهم، وانتبذت مكاناً قصياً، وقوله: (فأجاءها المخاض إلي جذع النخلة) أي: فألجأها واضطر الطلق إلي جذع النخلة، (قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً) فيه دليل على جواز تمني الموت عند الفتن، وذلك أنها علمت أن الناس يتهمونها ولا يصدقونها، بل يكذبونها حين تأتيهم بغلام على يدها، مع أنها قد كانت عندهم من العابدات الناكسات المجاورات في المسجد المنقطعات إليه المعتكفات فيه، ومن بيت النبوة والديانة، فحملت بسبب ذلك من الهم ما تمنت أن لو كانت ماتت قبل هذا الحال، أو كانت (نسياً منسياً) أي: لم تخلق بالكلية.
وقوله: { فنادها من تحتها }، وقوله: { ألا تخزني قد جعل ربك تحتك سرياً } { وهزي إليك بجزع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً } فذكر الطعام والشراب، ولهذا قال:{ فكلي واشربي وقري عيناً }
قال عمرو بن ميمون: ليس شيء أجود للنفساء من التمر والرطب، ثم تلا هذه الآية.
وقال ابن أبي حاتم: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم وليس من الشجر شيء يلقح غيرها"
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أطعموا نساءكم الولد الرطب، فإن لم يكن رطب فتمر، وليس من الشجر شجرة أكرم على الله من شجرة نزلت تحتها مريم بنت عمران"
{ فإما ترين من البشر أحداً فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً }
وهذا من تمام كلام الذي نادها من تحتها قال:
{ كلي واشربي وقري عيناً فإما ترين من البشر أحداً }
أي: فإن رأيت أحداً من الناس (فقولي) له أي: بلسان الحال والإشارة (إني نذرت للرحمن صوماً) أي: صمتاً، وكان من صومهم في شريعتهم ترك الكلام والطعام، ويدل على ذلك قوله: (فلن أكلم اليوم إنسياً) فأما في شريعتنا فيكره للصائم صمت يوم إلي الليل.
وقوله تعالى:
{ فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فريا * يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوءٍ وما كانت أمك بغيا } (سورة مريم:2728)
ذكر كثير من السف ممن ينقل عن أهل الكتاب أنهم لما افتقدوها من بين أظهرهم ذهبوا في طلبها، فمروا على محلتها والأنوار حولها، فلما واجهوها وجدوا معها ولد فقالوا له: (لقد جئت شيئاً فريا) أي: أمراً عظيماً منكراً، وفي هذا الذي قالوه نظر، مع أنه كلام ينقض أوله آخره، وذلك لأن ظاهر سياق القرآن العظيم يدل على أنها حملته بنفسها وأتت به قومها وهي تحمله، قال ابن عباس: وذلك بعد ما تعالت من نفاسها بعد أربعين يوماً. والمقصود أنهم لما رأوها تحمل معها ولدها (قالوا يا مريم لقد جئت شيئاً فريا) والفرية: هي الفعلة المنكرة العظيمة من الفعال والمقال. ثم قالوا لها: (يا أخت هارون) قيل: شبهوها بعابد من عباد زمانهم كانت تسامية في العبادة، وكان اسمه هارون، قاله سعيد بن جبير، وقيل: أرادوا بهارون أخا موسى شبهوها به في العبادة، وأخطأ محمد كعب القرظي في زعمه أنها أخت موسى وهارون نسباً، فإن بينهما من الدهور الطويلة ما لا يخفي على أدنى من عنده من العلم ما يرده عن هذا القول الفظيع، وكأنه غره أن في التوراة أن مريم أخت موسى وهارون ضربت بالدف يوم نجى الله موسى وقومه وأغرق فرعون وملأه، فاعتقد أن هذه هي هذه.
وهذا في غاية البطلان والمخالفة للحديث الصحيح مع نص القرآن، كما قررناه في التفسير مطولاً، ولله الحمد والمنة. وقد ورد في الحديث الصحيح الدال على