في تلك الصبيحة القائظة، حينما استيقظ فجأة ووجد نفسه جالساً فوق الفراش، يتصبب عرقاً ويلهث في تنفس سريع ومضطرب، لم يكن يعي بوضوح وشفافية بأنه سيرتكب جريمة طالما راودته في لحظات حنينه إلى الماضي وذلك قبل غروب الشمس المحترقة بأشعتها المنثالة على الرؤوس الدائخة. استيقظ فجأة وبعنف، دون مقدمات تحت تأثير كابوس مرعب وأجهد
[size=12]نفسه ليتذكر ولو صورة واحدة منه دون جدوي. كان مضطرب البال منفعلاً ومتعباً رغم أنه نام مبكراً كعادته، نوماً متصلاً دون انقطاع. مكث شارد الفكر، مستلقياً فوق السرير، يحاول التركيز واستعادة حالته الطبيعية. تلا قليلاً من الآيات القرأنية والأدعية بصمت ولعن الشيطان الوسواس. وقبل أن يغادر الفراش، دخلت زوجته مبتسمة وفتحت مصراع النافذة الخشبي، فدلف نور الصباح إلى الغرفة وأخرجها من الظلمة الشاحبة التي كانت سائدة داخلها، لاحظت زوجته شحوب وجهه والعرق الكثيف فسألته عن السبب، ولكنه طمأنها بأن أرجع ذلك إلى الحرارة المرتفعة، هذه الحرارة اللعينة التي وصلت مبكرة هذه السنة، إذ موسم الصيف ما زال في بدايته. قصد غرفة الحمام، أراد أن يأخذ دوشاً بارداً فتح الحنفية فلم ينهمر ذلك السائل المنعش الذي يعيد للانسان حيويته ويمنح له قوة يصمد بها طوال النهار. وبدل السيلان المنعش، قابله صوت مزعج ومنفر احدثه الماء الذي تراجع داخل الأنابيب تحت ضغوط الهواء الخارجي ، مما ضاعف من انفعاله ، فصاح بصوت أجش منادياً زوجته لتحضر له دلواً من الماء. وحينما جلس إلى الطاولة في المطبخ، لتناول فطور الصباح، انقطعت شهيته ولم يبتلع سوى فنجاناً من القهوة وهو يبذل قصاري جهده كي لا يتقيأها دفعة واحدة إذ غمره غثيان مقزز مع ارتفاع في درجة الحرارة والضغط الدموي. انتعل حذاءه الصيفي وغادر البيت متمنياً أن تتحسن حالته النفسية كي يتمكن من عقد الاجتماع الطارىء لقدماء المجاهدين المقرر في تلك الصبيحة، كان طويل القامة، نحيفاً ولكنه قوي البنية، تتوسط وجهه المعظم بالوجنتين البارزتين شلاغم سوداء كثيفة الشعر منحدرة قليلاً محلقة حول الشفتين. يكتنف شعر رأسه بياض من الشيب لم ينتشر بعد انتشاراً يوهم صاحبه بأنه شاخ وآن الوقت كي يفكر في الاستعداد للموت المريح.
[size=12]ورغم شيب الرأس، مازالت الشلاغم محافظة على عظمتها ولونها الأصيل. كان يلبس بدلة صيفية رمادية اللون تتكون من سروال وقميص بنصف الذراعين.
[size=12]في الخارج كان الجوّ حاراً وأجول رغم أن النهار ما زال في بدايته.
[size=12]يبعث هذا الجو القائظ رخاء وكسلاً في الأجسام بحيث يبدو الناس في قعودهم ووقوفهم وتنقلاتهم كأنهم نيام أو سكارى أو أشباح كتلك التي نشاهدها في بعض أفلام علم الخيال.
[size=12]الرغبة الوحيدة المعششة في الأذهان هي تلك التي توحي بالتمدّد والاستلقاء تحت ظل شجرة مورقة، تحرك أغصانها ريح خفيفة وتصفع الوجوه المتلألئة بحبات العرق الممزوج بالغبار المهيج للجلد، اتجه صوبا نحو مقر قدماء المجاهدين وهو شارد الفكر لا يلوي علي أحد من أهل القرية الذين يباشرونه بالتحية الصباحية والابتسامة تفيض من شفاههم المورمة، وهو يمشي بتثاقل بيّن يعصر نفسه في محاولة يائسة لاستذكار تفاصيل الكابوس الذي نغص عليه النوم اللذيذ، وبعث في نفسه حالة شعورية قلقة حائرة، جعلت جسمه النحيل لا يستقر على مكان ويتحمل الثبات والجمود، بل عليه بالتحرك المستمر والانشغال بشيء خارجي ليبعد عنه هذا الضغط المفروض من ذاكرته اللعينة التي طفق يصيبها النسيان والتلف. ينظر أمامه وهو لا يحدق في شيء بعينه بل يمسح ببصره الفراغ والعدم، متشبثاً بصور غامضة ومبهمة، تصور أنها مستمدة من ذلك الكابوس المزعج، ولم يتفطن إلى "كلاكصون" سيارة متوقفة قرب الرصيف المقابل من الشارع، الذي تردد أكثر من مرة، لما أدرك السائق عدم نفعية المنبه، فتح الباب، وقف متكئاً على سقف السيارة المغبّر ونادي بأعلى صوته الجهوري " ياسي مصطفى.. يا سي مصطفى " فنفذ النداء المرتفع إلى وعي هذا الأخير الغارق في حيرته، فالتفت في حركة سريعة ومفاجئة كأنه استيقظ من النوم للمرة الثانية في صبيحة ذلك اليوم الذي يبدو أنه لن يمر على خير. تحول من القلق والحيرة إلى الغضب ولسخط حينما تعرف علي المنادي وصاحبه المتكمش داخل السيارة بقامته القصيرة حتى كاد يختفي كلياً، تساءل مصطفى عمروش بغيظ عن لون القدر الذي جعله يلتقي بهذا الحلّوف في مثل هذا الوقت من الصباح. أنه نذير شؤم. منذ أيام وهو يتحايل لتجنب لقائه والابتعاد عنه قدرالمستطاع منذ تلك المرة التي وجده ينتظر خارج المسجد بعد صلاة الجمعة، فبادره بالتحية مصطنعاً ابتسامة مهادنة ودعاه إلى جوله قصيرة في سيارته الفخمة. فأنقاد مصطفى عمروش عن غير رغبة وهو العارف بأن " أحمد تكوش " الملقب بالسرجان لا يبحث عن خلق إلا ووراء ذلك مصلحة يقضيها إن عاجلاً أو آجلاً. وأثناء النزهة المفروضة، أنتظر مصطفى بفارغ الصبر أن يلفظ السرجان بهدف الدعوة المباغتة غير العادية، ولكن هذا الأخير بحسّ رجل أعمال، لم يطلب شيئاً محدداً، بل طاف حول ذكريات الماضي البعيد، أيام الحرب والجوع والتشرد الجماعي، مركزاً ذكرياته حول بعض المجاهدين الذين استشهدوا في المعارك الكثيرة التي انفجرت وسط الجبال المجاورة لقرية " عين الفكرون " مؤكداً على معرفته بهم أحسن معرفة وكانوا يقدرونه أكبر تقدير وذكر أسماء بعضهم الذي جندوا معه في الحرب العالمية الثانية وكيف نجا الأحياء منهم بأعجوبة لا يصدقها إلاّ من كان حاضراً.
[size=12]السرجان يتكلم ومصطفى عمروش يبتسم بمرارة إذ أنه يعرفه حق المعرفة منذ أن كان طفلاً، لا يكبره السرجان إلا بعشرة سنوات فقط. يتذكر الأيام التي عاد فيها السرجان من الحرب العالمية الثانية وهو يتجوّل في القرية بزيه العسكري متبختراً، معلناً للجميع بأنه يرتبه سرجان وليس كَبْرَاناً مثلما يتصورون. ومنذ تلك الأيام أصبح معروفاً بهذا الاسم حتى حينما غادر الجيش الفرنسي في أواخر الخمسينات ليفتح دكاناً خاصاً للمواد الغذائية بمساعدة شيخ البلدية الفرنسي، وبعد أن التحق مصطفى عمروش بالثورة كانت تصلهم أخبار سكان عين الفكرون أول بأول وضمنها أخبار السرجان صاحب الدكان الوحيد وخاصة في السنوات الأخيرة مباشرة قبل الاستقلال حين أغلقت الدكاكين الأخرى لقطع المئونة عن المجاهدين في الجبال، وبقي وحده يتصرف كما يشاء، يبيع لمن يريد، ويرفض بيع القهوة والسكر والزيت لمن يريد أيضاً. وصلتهم أخبارٌ متعددة تفيد أن السرجان يرفض البيع لعائلات الشهداء والمجاهدين دون أن يصارحهم بالحقيقة. فمرة، السلعة مفقودة ومرة أخرى، يغلق الدكان بمجرد دخول أحد أعضاء هذه العائلات متحججاً بشغل ما خارج القرية، إلى أن حاصرته دورية المجاهدين في بيته وكان مصطفى خارج البيت يحرس الممر، وباغتته في سريره الوثير مطمئناً يغط في نوم لذيذ وأنذرته بالتخلي عن سلوكه المعادي، آمرة أياه ببيع السلعة للجميع دون تمييز وبالكمية التي يطلبونها. في تلك الليلة أقسم السرجان بكل الأنبياء والصالحين والأولياء المعروفين والمغمورين ورؤوس أبنائه، فلذة كبده بأنه لم يقصد ما يظنون بتاتاً بل يفرحه كثيراً مساعدة عائلات الأخوة الأبطال الذين يحررون الوطن من المعمرين الأشرار. ثم قصد غرفة جانبية وأخرج كيساً من المواد الغذائية وأعطاها لهم معلناً نيته الطيبة في مساعدة الثورة. ولكن أثبتت أفعاله فيما بعد بأن الولاء كان مؤقتاً ومصدره الخوف من الذبح لا غير إذ تمادي في تمييزه بين العائلات وأصبحت دوريات الجيش الاستعماري تطوف حول منزله ليلاً وفي أحيان كثيرة يطرقون الباب ويشربون الشاي عنده مستمعين إليه وهو يروي بطولاته المختلفة أيام تجنيده في الجيش الاستعماري. أجهد مصطفى عمروش نفسه لمعرفة هدف الجولة وطاف حول احتمالات متعددة دون أن يتوقف عند واحدة بعينها، وهو ما فتى، يسترق السمع إلى السرجان يسرد ذكريات الماضي. يتقرب الناس البسطاء إلى قسمة الحزب والمجاهدين عساهم يظفرون بامتياز مادي- سكن، قطة أرض، رخصة تاكسي أو فتح محل تجاري.. ويملك السرجان كل هذا وأزيد. فحالته المادية ميسورة ولا يحتاج إلى معونة، بل العكس هو الصحيح إذ يحتاج الناس إليه يطلبون منه المساعدة المادية والقروض المالية وكراء احدى شاحناته الضخمة لنقل البضائع. هذا ما أقلق مصطفى عمروش وحيّره، فجعله يفكر في الأمر أياماً حتى داهمه السرجان في مكتبه بعد خروج كل الموظفين. فمن عادته البقاء في المكتب بعد انتهاء أوقات العمل لقراءة القرارات والنصوص والوثائق التي يتلقاها من الجهاز المركزي للحزب، ليمعن فيها النظر جيداً، إذ يصر على معرفة كل القوانين المتعلقة بوظيفته، وذلك رغم ثقافته البسيطة وقراءته الابتدائية، فهو لم يلتحق بالمدرسة أيام الطفولة، لم يعرف مقاعد الدراسة إلا بعد الاستقلال عبر الدروس الليلية وهو كبير السن حيث تلعم مباديء الكتابة والقراءة حتى أصبح يقرأ الجريدة اليومية ويطالع بعض الكتب المتعلقة بتاريخ الجزائر، ثم توسعت دائرة معارفه وأضحى يقرأ القرآن والسيرة النبوية. وفي حالة غموض بعض العبارات والكلمات يستعين بإبنه البكر الذي يتابع دراسته في الجامعة وهو على وشك التخرج. داهمه السرجان دون إذن، ولم يتفطن له حتى وجده واقفاً بشموخ وكبرياء على عتبة الباب المفتوح دوماً، تسبقه كرشه المنتفخة الفائضة على حزامه السميك العريض، حزام يشبه أحزمة البذل الميدانية للجيش، ربما تكون عادة قديمة تعوّد عليها أيام كان سرجاناً حقيقياً، كان السرجان قصير القامة، ممتلئاً، يهتم بمظهر جسمه ولباسه بحيث يبدو أصغر من سنه الحقيقي الذي يدور حول الستين. يحلق ذقته باستمرار ويحافظ على التسريحة العسكرية لشعره. قبل أن ينبس بكلمة ويلفظ عبارة السلام المعتادة، أحس مصطفى عمروش بوجود شخص ما، فغادر بصره الصفحات الكثيرة المبعثرة على المكتب وتثبت على وجه الدخيل المتطفل الذي لم ير ضرورة الاعلان عن قدومه. ساد صمت قصير بين الرجلين قبل أن ينطلق السرجان في ثرثرة طويلة مسلماً ومعتذراً عن الازعاج المفاجيء.
[size=12]- " كنت ماراً من هنا، شاهدت الباب مفتوحاً، فقلت لنفسي: لِمَ لا أدخل وأسلم علي سي مصطفى الرجل الطيب. يبدو أنك تتأخر كثيراً في المكتب، أنت تحب عملك دون شك" سكت برهة من الزمن تردد في الجلوس حدق حواليه في أثاث الغرفة المربعة الشكل، الضيقة. يظهر علي قسمات وجهه ارتباك ما. حالته مضطربة دون شك، ولم تلفت هذه الحالة من بصر مصطفى النافذ، وخاطب نفسه بأن الزيارة ليست مفاجئة وعادية بل يضمر أمراً ما وراءها، أمراً مهما يجعل السرجان مضطرباً وقلقاً ومرتبكاً في سلوكه، وهو الرجل الواثق من نفسه إلى حد التعالي والغرور. تعتبر الزيارة الأولى نوعها، لم يسبق أن تردد السرجان عليه في مكتبه، بل لا تربطه معه علاقة من أي نوع، طلب منه مصطفى عمروش الجلوس مرحباً، مصطنعاً الفرح والبهجة لحضوره.
[/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]